قراءة في قوله تعالى: ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار...



قراءة في قوله تعالى
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا (وَعَدَنَا رَبُّنَا) حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا (وَعَدَ رَبُّكُمْ) حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ {الأعراف/44}
لماذا استخدم سبحانه وتعالى (وعدنا ربنا) و(وعد ربكم) دون ضمير المخاطب (وعدكم ربكم)؟
................................
تتحدث الآيات عما بعد يوم الحساب... بعد أن يعلم كل إنسان مكانه في الجنة أو النار ويساق إليه...
يتحدث سبحانه في الآية السابقة عن حوار يدور بين أصحاب الجنة وأصحاب النار... 
وبدأ سبحانه الحوار بأهل الجنة... فسبحانه يدرك حال أهل الجنة وما هم فيه من فرح وسعادة وانتعاش نفسي وروحي وجسدي... بعد فوزهم بالجنة خالدين فيها أبدا...
والنداء عادة لمن يكون على بعد مناسب ليسمع النداء... فهل الجنة قريبة من النار فيرى أهل النار نداء أهل الجنة ويسمعون نداءهم... أم أن حال المرئ في الآخرة يختلف عن حاله في الدنيا؟  وأن حواس الآخرة تختلف عن حواس الدنيا في قدراتها وإمكاناتها... ؟! وإلى هذا أنا أمْيَل... خاصة أن الله سبحانه وتعالى يقول أن الجنة (عرضها السماوات والأرض)... فالحديث بين أهل الجنة وأهل النار يحتاج قدرات خاصة تغاير قدراتنا على الأرض...

فقد قال عز وجل عن رجل أسكنه الله الجنة وأسكن من حاول إغواءه النار: (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ {الصافات/55} قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ {الصافات/56} وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ {الصافات/57}) فمن في الجنة رأى من في النار وخاطبه... فالقدرة على الإبصار مكنت المؤمن من رؤية الكافر وهو في جهنم...
واستخدم سبحانه وتعالى الفعل الماضي (نادى) مع أن الحدث لم يتم بعد فالمشهد بعد الحساب والجزاء... وذكر المستقبل بصيغة الماضي تفيد هنا توكيد حدوث الفعل قطعا وكأنه حدث وانتهى...
وقال عز وجل (أصحاب الجنة... وأصحاب النار)... والصاحب: المرافق... والمالك... فهل أصحاب الجنة المترافقون فيها... أم مالكوها... والملكية هنا مجازية فالمالك هو الله عز وجل... وهم المقيمون فيها أبدا... المنتفعون من خيراتها ونِعمها... فملكيتها ملكية ترافق وملكية إقامة دائمة... 
وأصحاب النار... أو المقيمين فيها إقامة دائمة إلا من رحم ربي... ليسوا مترافقين فيها... فهم الفاسدون والمفسدون... ذوو الإقامة الدائمة (خالدين فيها أبدا)... فهم مالكوا النار بالمعنى المجازي للملكية...
أهل الجنة مترافقون فيها... وأهل النار غير مترافقين... يقيمون معا لكنهم غير مترافقين...  فالفعل (رَفَقَ)... من معانيه التواجد معا تواجدا مصحوبا بحسن التعامل والرقة واللطف والعطف والحنان والتآلف والتسامح... وهذا حال ووصف لأهل الجنة... لا أهل النار... فهم (أصحاب النار) أصحاب إقامة لا حسن تعامل... ففرق شاسع بين صحبة أهل الجنة وصحبة أهل النار...

والنداء في أصل استخدامه يأتي تنبيها لغرض يريده المنادي من المنادى عليه...
لكن النداء هنا بالإضافة لتنبيه أهل النار لما سيقال لهم... يشي أيضا بالحال النفسية للمنادي (أصحاب الجنة) فهم في فرح وسعادة ونشوة يرسلون رسالة بحالهم لأصحاب النار (قد وجدنا ما وعدنا الله حقا)...
وقد حرف تحقيق يفيد مع الفعل الماضي توكيد حدوثه... وقد وعد الله المؤمنين الذين يعملون الصالحات بجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا... وقد أسكنهم الله جنته... ووجدوا فيها ما وعدهم الله من نعم متشابهة وغير متشابهة... ففي الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر...
والفعل الماضي (وجدنا) بمعنى (لقينا) واستُخدم هنا للدلالة على أن المستقبل متحقق يقينا فهو في مرتبة ما تحقق فعلا...
وقد يقول البعض... بل هو فعل يدل على الماضي... فزمن الفعل يقاس بزمنه للمتحدث... فالحوار رغم أنه يجري في المستقبل إلا أنه لا يتم إلا بعد أن يساق كل طرف إلى ما جازاه الله به...  فالحديث وهما في الجنة والنار يصبح بصيغة الماضي... عندها يكون المؤمنون قد وجدوا ما وعدهم الله به...  فالماضي هنا بعد حدوث المستقبل الحادث قطعا...
وجاء اتصال (وعد) بـ (نا) المفعولين... ليفيد أن الوعد بالجنة وعد خاص بهم (المؤمنين الصالحة أعمالهم) وليس لكل عباده...
يقول عز وجل: (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً {النساء/122}
والتوكيد في العبارة لا يتعلق بتوكيد صدق الخالق في وعده!!!... فهم ليسوا بحاجة لذلك... بل على يقين مطلق بعدل الخالق وصدق وعده... وبأنهم استحقوا ما وعد الله به المؤمنون، وبأن وعده سبحانه وتعالى بتوريث الجنة للمؤمنين الذين عملوا الصالحات انطبق عليهم... فهم كانوا صادقين في إيمانهم مصدقين لخالقهم... فنالوا ما وعد الله (العابدين الصادقين) من جزاء...
واختار اهل الجنة من أسماء الله الحسنى (ربّنا) الذي يشمل في معانيه المربي والراعي والمدبر والمعطي...
ويرى أهل اللغة أن (حقا) قد تعرب مفعولا ثانيا لـ (وجد)... وقال آخرون بل تعرب حالا...
ويكمل أصحاب الجنة حديثهم: (فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟)... والاستفهام في العبارة ليس حقيقيا (لطلب الفهم)... فهم يدركون أن أصحاب النار هم أيضا وجدوا ما وعد الله حقا... فالاستفهام هنا ليس حقيقيا ذلك أن أهل الجنة على علم بأن أصحاب النار وجدوا ما وعد الله حقا... لكنه (الاستفهام) جاء مجازا مرسلا ليوقف المخاطبين (أصحاب النار) على غلطهم ، وإثارة مشاعر الندم والغم على ما فرطوا به من استجابة لنداء الله لهم بالإيمان...
ولست مع من يقول أن من معاني الاستفهام هنا الشماتة... فالمؤمنون لا يشمتون بالكافرين بل يتمنون أن لو كانوا مؤمنين ودخلوا الجنة معهم... ثم في الجنة لا يوجد غل... يقول سبحانه وتعالى: (...وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ...) {الأعراف/43}
وتوقفت عند استخدامه سبحانه وتعالى في مخاطبة الكافرين على لسان أصاب الجنة (وَعَدَ ربُّكم) وليس (وَعَدَكُم ربُّكم)... مع أنهم من نال وعد العقاب...
ولعل مرد ذلك أحد الأمور التالية أو بعضها أو كلها...
1-  أن الله حذر عباده من النار ولم يعدهم بها... وعندما تحدث عن أصحاب الجنة وأصحاب النار، تحدث عنهم كفئات فئة المؤمنين وفئة الكافرين... ولعل الكثيرين منهم كانوا يظنون أنفسهم من أصحاب الجنة... فبعضهم كان يظن أنه لمكانته الخاصة في الدنيا وجاهه وأمواله سيكون من أصحاب الجنة... ولم يتأكد أصحاب النار من موقعهم إلا بعد الحساب...
بينما كان أصحاب الجنة على ثقة بخالقهم... وكانوا على ثقة بأنهم أصحاب الجنة ... يقول عز وجل على لسان أحدهم: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ {الحاقة/19} إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ {الحاقة/20} فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ {الحاقة/21})...  

2-  لو كان الخطاب (وعدكم ربكم)... لكان الله قد وعدهم وهم في الحياة الدنيا بأن لهم النار في الآخرة كمصير حتمي (فوعد الله محقق)... وكان لهم أن يدَّعو أن الحكم  صدر عليهم قبل أن يقوموا بأعمالهم وأنهم كانوا مسيرين لأعمالهم الضالة وللنار بدون خيار... ولولا وعد الله لهم بالنار لكانوا مؤمنين!!

3-   القول (وجدتم ما وعدكم ربكم حقا)... تفيد أن الوعد جاء متعلقا بالكفار دون غيرهم... ويتناول النار كعقاب لهم...
بينما القول (وجدتم ما وعد ربكم حقا)... فتعني أنهم وجدوا أن كل ما وعد الله حق:
أ‌)       وعد المؤمنين الجنة فكافأهم الله بها...
ب‌) ووعد الكافرين النار فأسكنهم فيها...
وهذا الاستخدام أقوى أثرا على نفسية الكافر... فقد خسروا مرتين... خسروا الجنة التي لم تكتب لهم... وخسروا عندما نالوا النار عقوبة لهم على كفرهم أو شركهم...
وأجاب أهل النار مطأطئي الرؤوس متحسرين منكسرين: (نعم) وهي إجابة قصيرة تشي بالحال النفسية لهم... فقد انهار كل ما شيدوه من أحلام بأن لا بعث ولا حساب ولا عذاب... ووجدوا ما وعد الله حقا فهناك جنة لمن آمن وعمل صالحا... ونار لمن كفر أو أشرك... واهتم بدنياه وترك آخرته...
وتنتهي الآية بقوله عز وجل: (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ {الأعراف/44}
والتأذين : رفع الصوت بالكلام رفعا يسمع البعيد بقدر الإمكان... وقيل أن المعنى أعلم معْلِم... ونادى بعلو صوته ليسمع الطرفان نداءه وإعلامه...
و(بينهم) قد تكون مكانية... المكان الفاصل بين أهل الجنة وأهل النار... وقال بعضهم أن (بينهم) تعني بين أصحاب النار... وأنا لست مع ذلك... فلا مبرر لوجود منادٍ مرسل من الله ليكون موقعه بين الكافرين الظالمين ليعلمهم...
كما أن الآية تتحدث عن محادثة قامت بين أصحاب الجنة وأصحاب النار بعد أن استقر كل منهما في مكانه... فكان صوت كل منهم يصل الآخر... وعليه قد يكون المنادي بين أصحاب الجنة وأصحاب النار.... وقد يكون في مكان أعلى من مكانيهما... فالله سبحانه لم يحدد جنس المنادي... وهل هو من البشر أم الملائكة..
وقد تكون (بينهم) معنوية تشير إلى الفرق بين الرتبتين عند الله... بين أصحاب الجنة الأعلى مكانة والأقرب للخالق... وأصحاب النار الملعونين من ربهم...
(أن لعنة الله على الظالمين)...
وقيل أن (أنْ) مخففة من الثقيلة فهي توكيدية فقدت عملها.... فلا تنصب المبتدأ... وقيل هي تفسيرية... تفسر نداء المنادي... واللعنة: الإبعاد سخطا... الطرد من الرحمة... والعذاب... وكلها معانٍ تصلح لأصحاب النار وهم الظالمون هنا... ظلموا أنفسهم بكفرهم وتعنتهم وإغلاق أعينهم وآذانهم وقلوبهم...
فعليهم لعنة الله وغضبه... وقانا الله وإياكم من أن نكون من أصحاب النار...




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وقفة عند دلالات: (الفوز المبين) و(الفوز الكبير) و(الفوز العظيم) في القرآن الكريم...